فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَوْ تَرَى} أي ولو رأيتَ، فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضيًا كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعًا، والخطابُ إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مر تحقيقُه في قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [سورة الأنعام، الآية 27] وكلمةُ إذ في قوله تعالى: {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ، أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر، وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به، وقيل: الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عز وجل، والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} خبرُه، والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضمير عن الواو، وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما {وأدبارهم} أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} على إرادة القولِ معطوفًا على يضربون أو حالًا من فاعله أي ويقولون أو قائلين: ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها، وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البيانِ أي لرأيتَ أمرًا فظيعًا لا يكاد يوصف. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ تَرَى} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن {لَوْ} الامتناعية ترد المضارع ماضيًا كما أن إن ترد الماضي مضارعًا، أي ولو رأيت {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} إلخ لرأيت أمرًا فظيعًا، ولابد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير، وليس المعنى على حقيقة المضي، قيل: والقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث، وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذٍ، و{الملائكة} فاعل يتوفى، وتقديم المفعول للاهتمام به، ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وحسن ذلك الفصل بينهما، ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر {تتوقى} بالتاء.
وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة {الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} والجملة الاسمية مستأنفة، وعند أبي البقاء في موضع الحال، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير، ومن يرى أنه لابد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول، وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالًا من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفي فيها بالضمير كما لا يخفى.
والمراد من وجوههم ما أقبل منهم، ومن قوله سبحانه: {وأدبارهم} ما أدبر وهو كل الظهر.
وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكنى والأول أولى، وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى: {بالغدو والآصال} [الأعراف: 205] لأنه أقوى ألمًا، والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره.
وروي عن الحسن أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك ضرب الملائكة.
وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ {وَلَوْ تَرَى} الخ، ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} عطف على {يَضْرِبُونَ} بإضمار القول، أي ويقولون ذوقوا، أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا، وهو على الوجهين من قول الملائكة، والمراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة، فهو بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمر مما هم فيه، وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، وعليه فالقول للتوبيخ، والتعبير بذوقوا قيل: للتهكم لأن الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالبًا، وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق.
وبهذا الاعتبار يكون فيه المبالغة، وإن أشعر الذوق بقلته.
وذكر بعضهم: وهو خلاف الظاهر أنه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله تعالى كما في آل عمران {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [آل عمران: 181] وجواب {لَوْ} محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقًا، وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
لمّا وُفِّيَ وصفُ حال المشركين حقَّه، وفصّلت أحوال هزيمتهم ببدر، وكيف أمكن الله منهم المسلمين، على ضُعف هؤلاء وقوة أولئك، بما شاهده كلّ حاضر حتّى ليوقن السامع أنّ ما نال المشركين يومئذ إنّما هو خذلان من الله إيّاهم، وإيذان بأنّهم لاقون هلاكهم ما داموا مناوئين لله ورسوله، انتُقِل إلى وصف ما لقيه من العذاب مَنْ قُتل منهم يوم بدر، ممّا هو مغيب عن الناس، ليعلم المؤمنون ويرتدع الكافرون، والمراد بالذين كفروا هنا الذين قتلوا يوم بدر، وتكون هذه الآية من تمام الخبر عن قوم بدر.
ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا جميع الكافرين حملًا للموصول على معنى العموم فتكون الآية اعتراضًا مستطردًا في خلال القصّة بمناسبة وَصف ما لقيه المشركون في ذلك اليوم، الذي عجّل لهم فيه عذاب الموت.
وابتدئ الخبر بـ {ولو ترى} مخاطبًا به غير معين، ليعمّ كلّ مخاطب، أي: لو ترى أيّها السامع، إذ ليس المقصود بهذا الخبر خصوص النبي صلى الله عليه وسلم حتّى يحمل الخطاب على ظاهره، بل غير النبي أولى به منه، لأن الله قادر أن يطلع نبيه على ذلك كما أراه الجنّة في عرض الحائط.
ثمّ إن كان المراد بالذين كفروا مشركي يوم بدر، وكان ذلك قد مضى يكن مقتضى الظاهر أن يقال: ولو رأيت إذ تَوفَّى الذين كفروا الملائكة.
فالإتيان بالمضارع في الموضعين مكانَ الماضي؛ لقصد استحضار تلك الحالة العجيبة، وهي حالة ضرب الوجوه والأدبار، ليخيّل للسامع أنّه يشاهد تلك الحالة، وإن كان المراد المشركين حيثما كانوا كان التعبير بالمضارع على مقتضى الظاهر.
وجواب {لو} محذوف تقديره: لرأيت أمرًا عجيبًا.
وقرأ الجمهور: يتوفّى بياء الغائب وقرأه ابن عامر: تتوفّى بتاء التأنيث رعيا لصورة جمع الملائكة.
والتوفِّي: الإماتة سمّيت توفّيًا؛ لأنها تنهي حياة المرء أو تستوفيها {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11].
وجملة: {يضربون وجوههم وأدبارهم} في موضع الحال إن كان المراد من التوفّي قبض أرواح المشركين يوم بدر حين يقتلهم المسلمون، أي: يزيدهم الملائكة تعذيبًا عند نزع أرواحهم، وهي بدل اشتمال من جملة: {يتوفى} إن كان المراد بالتوفّي توفيًا يتوفّاه الملائكة الكافرين.
وجملة: {وذوقوا عذاب الحريق} معطوفة على جملة: {يضربون} بتقدير القول، لأنّ هذه الجملة لا موقع لها مع التي قبلها، إلاّ أن تكون من قول الملائكة، أي: ويقولون: ذوقوا عذاب الحريق كقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} [البقرة: 127]، وقوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا} [السجدة: 12].
وذكر الوجوه والأدبار للتعميم، أي: يضربون جميع أجسادهم.
فالأدبار: جمع دبر وهو ما دَبَر من الإنسان.
ومنه قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45].
وكذلك الوجوه كناية عمّا أقبل من الإنسان، وهذا كقول العرب: ضربته الظهر والبطن، كناية عمّا أقبل وما أدبر أي ضربته في جميع جسده.
والذوق مستعمل في مطلق الإحساس، بعلاقة الإطلاق.
وإضافة العذاب إلى الحريق من إضافة الجنس إلى نوعه، لبيان النوع، أي عذابًا هو الحريق، فهي إضافة بيانية.
و{الحريق} هو اضطرام النار، والمراد به جهنّم، فلعلّ الله عجّل بأرواح هؤلاء المشركين إلى النار قبل يوم الحساب، فالأمر مستعمل في التكوين، أي: يذيقونهم، أو مستعمل في التشفّي، أو المراد بقول الملائكة {وذوقوا} إنذارهم بأنّهم سيذوقونه، وإنّما يقع الذوق يوم القيامة، فيكون الأمر مستعملًا في الإنذار كقوله تعالى: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} [إبراهيم: 30] بناء على أنّ التمتّع يؤذن بشيء سيحدث بعد التمتّع مضاد لما به التمتّع. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)}
والذي يُوجه إليه هذا الخطاب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعناه لو كشفنا لك الغيب لترى، وتلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ترك الجواب، فلم يقل ماذا يحدث لهذا الكافر الملائكة يضربونه، وإذا ما حذف الجواب فإنك تترك لخيال كل إنسان أن يتصور ما حدث في أبشع صورة، ولو أن الحق سبحانه وتعالى جاء بجوابه لحدد لنا ما يحدث، ولكن ترك الجواب جعل كلا منا يتخيل أمرًا عجيبًا لا يخطر على البال، ويكون هذا تفظيعًا لما سوف يحدث.
والصورة هنا تنتقل بنا من عذاب الدنيا للكفار إلى ساعة الموت.
و{يَتَوَفَّى} أي لحظة أن تقبض الملائكة أرواح الكافرين، والتوفي وهو قبض الأرواح يجيء مرة منسوبًا لله سبحانه وتعالى مصداقًا لقوله: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم} ومرة يأتي منسوبًا لرسل من الله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} ومرة يأتي منسوبًا إلى ملك الموت وهو عزرائيل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت}
وبذلك يكون التوفي في أسند مرة إلى الله عز وجل ومرة إلى عزرائيل ومرة إلى رسل الموت، ونقول: لا تعارض في هذه الأقوال؛ لأن الأمر في كل الأحوال يصدر من الله سبحانه وتعالى، إما أن يقوم عزرائيل بتنفيذه وإما جنوده وهم كثيرون.
الأمر الأصيل- إذن- من الله، وينسب إلى المتلقي المباشر من الله وهو عزرائيل، ويُنسب إلى من يطلب منهم ملك الموت أن يقوموا بهذه العمليات.
وهذا العذاب يحدث ساعة الاحتضار وهي اللحظة التي لا يكذب الإنسان فيها على نفسه؛ لأن الإنسان قد يكذب على نفسه في الدنيا، وقد يكون مريضًا بمرض لا شفاء منه فيقول: سأشفى غدًا، ويعطي لنفسه الأمل في الحياة، وقد يكون فقيرًا لا يملك من وسائل الدنيا شيئًا ويقول: سوف أغتني؛ لأن الإنسان دائما يغلب عليه الأمل إلا ساعة الاحتضار، فهذه لحظة يوقن فيها كل ميت أنه ميت فعلًا ولا مفَّر له من لقاء الله، ولذلك تجد أن الذي ظلم إنسانًا لحظة يموت يقول لأولاده: أحضروا فلانًا لقد ظلمته فردوا له حقوقه نحوي وما ظلمته فيه، والإنسان لحظة الاحتضار يرى كل شريط عمله. فإن كان مؤمنًا رأى شريطًا منيرًا؛ فيبتسم ويستقبل الموت وهو مطمئن. وإن كانت أعماله سيئة فهو يرى ظلامًا، ويتملكه الذعر والخوف لأنه عرف مصيره.
وحينما زين الشيطان للكفار أن يقاتلوا المؤمنين ووعدهم بالنصر، وقال: إنني سأجيركم إذا دارت عليكم الدائرة، فلما أصبح المؤمنون والكفار على مدى الرؤية من بعضهم البعض هرب الشيطان؛ لأنه رأى من بأس الله ما لم يره الكفار، وهذا هو موقف الشيطان دائمًا، إذا رأى بأس الله أسرع بالفرار، ويعترف أن كل حديثه لابن آدم إنما هو وعد كاذب سببه الحقد الذي في قلبه؛ لأنه تلقى العقاب من الله عز وجل بعد أن رفض تنفيذ أمر الله له بالسجود لآدم، وهو الذي أوجب عليه العذاب الذي سيلاقيه.
ونرى الشيطان مثلًا كما يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
أي أنه أقسم بجلال الله وعزته. ومعنى عزة الله أنه غني عن خلقه جميعًا لا يحتاج لأحد منهم، فهو الله بجلال وجمال صفاته قبل أن يوجد أحد من خلقه قد خلق هذا الكون وأوجده ولم يستعن بأحد، ولو آمن به الناس جميعًا ما زاد ذلك في ملكه شيئًا. ولو كفر به الناس جميعًا ما نقص ذلك من ملكه شيئًا. وقسم إبليس بعزة الله إقرار منه بها. وقد أقسم بعزة الله أن يطلب الغواية للإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما دام لا يزيد ملكه ولا ينقص بإيمان خلقه؛ لذلك أعطاهم حرية الاختيار، ولو أراد الله الناس مؤمنين ما استطاع إبليس أن يقترب من أحد منهم، ويحاول إبليس بحقده على الإنسان وكرهه له أن يصرفه عن طريق الإيمان، ولكن هل يملك إبليس قوة إغواء على مؤمن؟. لا، ولذلك فهناك استثناء: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].